مكانة وأهمية الحوار فى الإسلام
بقلـم : أ/ منى هيكل
يقرر الإسلام الاختلافَ كحقيقة إنسانية طبيعية ، ويتعامل معها على هذا الأساس .
من هذا المنطلق برزت أهمية الدعوة للحوار ، واستشراف وجهات نظر الطرف الآخر،
قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) . وانطلاقا من أهمية الحوار ، واعتباره إحدى ركائز التعايش ، حرص الإسلام على قرار مبادئه، حيث رتب الشرع أجرا لمن اجتهد وأخطا ، فنعرف جميعا أن من اجتهد وأصاب الحق ، فقد نال أجرين : أجر الاجتهاد ، وأجر الإصابة للحق . ومن اجتهد وأخطأ ، فله أجر واحد ، هو أجر الاجتهاد، ولم يؤثَم على الخطأ .
نفهم من ذلك أن الاجتهاد كأي عمل فكري إنساني ، يحتمل فيه الخطأ والصواب ، فهو ليس مقدسا ، ولا ثابتًا ، بل هو إنساني ، محدود ، ومتغير. ومن الأسس المشهورة - أيضا - أن " رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " ، نفهم من ذلك أيضا ، أنه ليس لأحد أن يدعي الحقيقة المطلقة ، وليس له أن يخطِّئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف ، فالحقيقة نسبية ، والبحث عن الحقيقة - حتى من وجهة نظر الآخر المختلف - طريق مباشر من طرق المعرفة ، وهو في الوقت نفسه ، أسمى أنواع الحوار. وفي ثقافتنا الإسلامية – كذلك - أن الحوار يتطلب ، أولا - وقبل كل شيء - الاعتراف بوجود الآخر المختلف ، واحترام حقه ، ليس في تبني رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب ، بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد ، ثم واجبه في تحمل مسئولية ما هو مقتنع به.
نماذج للحوار في القرآن :
في حوار الله والشيطان - كما ورد في سورة (الأعراف) - يقول جل وعلا : (ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، قال أنا خير منه خلقتَني من نار وخلقتَه من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبَّر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يُبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتَني لأقعدَنَّ لهم صراطك المستقيم * ثم لأتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجدُ أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأنَّ جهنم منكم أجمعين) .
من خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان ، تبرز حقيقة الثواب والعقاب ، الخير والشر، الإيمان والكفر. وما كان لصورة هذه الحقيقة أن تكتمل من دون هذا الحوار؛ وما كان لهذا الحوار أن يقوم من دون وجود الآخر. وفي حوار الله مع الأنبياء ، تبرز حقيقة الإعجاز الإلهي
وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيِ الموتى قال أولم تؤمن قال بلىَ ولكن ليطمئن قلبي * قال فخذ أربعة من الطير فصُرهُنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهنَّ يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم) .( سورة البقرة، الآية 260) . وفي حوار الله مع عباده ، تبرز حقيقة العدل الإلهي ، حيث ورد في الآية الكريمة : (قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كُنتُ بصيرًا * قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) .( سورة طه ، الآيتان 125- 126) . وفي حوار الأنبياء مع الناس ، تبرز حقيقة التربية الإلهية ، حيث ورد في الآية الأولى من سورة (المجادلة) : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) ، كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية : (ألم ترَ إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيِ ويميت قال أنا أحيِ وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) .( سورةالبقرة ، الآية 258). وفي حوار الناس مع الناس ، تبرز حقيقة الجشع الإنساني : " فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفرًا"( سورة الكهف ، الآية 34 ) تبيِن الآيات الكريمة السابقة أن الحوار يتطلب وجود تباينات واختلافات في الموقع ، وفي الفكر ، وفي الاجتهاد ، وفي الرؤى ، وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوع الذي يعتبر- في حد ذاته - آية من آيات القدرة الإلهية على الخلق ، ومظهرا من مظاهر عظمته وتجلياته.
آداب الحوار :
للحوار قواعده وآدابه ، ولعل من أبرز هذه القواعد والآداب ، ما ورد في سورة)سبأ) ، كان الرسول محمد يحاور غير المؤمنين شارحا ومبيِنا ومبلغا ، ولكنهم كانوا يصرون على أن الحق إلى جانبهم ، فحسم الحوار معهم على قاعدة النص : (وإنَّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سورة (سبأ ، الآية 24) . لقد وضع الرسول نفسه في مستوى من يحاور، تاركا الحكم لله ، وهو أسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار، وعن احترام اختياره ، حتى ولو كان على خطأ ، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة:
(قُلْ لا تُسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون).
فكان من آداب الحوار ، أن وصف اختياره للحق – وهو على حق – بأنه إجرام (في نظرهم) ، ووصف اختيارهم للباطل – وهم على باطل – بأنه مجرد (عمل) ، ثم ترك الحكم لله : (قل يجمع بيننا ربنا ، ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتَّاح العليم) . إن احترام حرية الاختيار هنا ليست احتراما للخطأ ولا تسفيها لوجهة نظر الآخر ومحاولة إسقاطها بأى شكل فى نفس الوقت .